في الصميم .. المتقاعدون.. وفضيلة النسيان!!

لطفي نصر
اتصل بي أحد المتقاعدين تعود الاتصال بي من حين الى آخر يشكو همومه.. فأعبر عنها أحيانا.. ثم أنشغل عنها أحايين أخرى، وقال لي: أنت كنت تعرف بين المتقاعدين بأنك محاميهم والمدافع الأول عن حقوقهم ومصالحهم.. ولكننا فوجئنا بأن هذه الراية قد انتقلت من يدك إلى أيدي الدكتور عبدالرحمن بوعلي من دون أن تعرف الأسباب.. ثم ألح عليّ لمعرفة الأسباب؟
قلت له: فعلا.. لقد كتب الدكتور بوعلي مقالين متتاليين استطاع من خلالهما أن يجسد في روعة يحسد عليها بأن المتقاعد البحريني هو المنسي الأول في العالم العربي.. يخرج الى التقاعد فيجد نفسه في سرعة مذهلة في غياهب النسيان يحوطه الجحود والإنكار والتنكر وقلب ظهر المجن.. وقد استحق مني أن أتصل به وأشكره على روعة ما قدمه.
ثم قلت له: أنا أوافق الدكتور عبدالرحمن على هذه النتيجة المؤلمة التي توصل اليها.. فأنا فعلا أحسها منذ زمن بعيد، بعد ان خبرت قضايا المتقاعدين، واقتربت منهم على أرض الواقع، وعايشت مشاكلهم.. ولكن يبدو ان ظاهرة سرعة نسيان الأعزاء علينا الذين يتوفاهم الله، أو من قدموا خدمات جليلة للوطن، وأفنوا زهرة حياتهم وشبابهم بل أعمارهم في سبيل العطاء للوطن ولكل المواطنين.. ملحوظة في البحرين أكثر مما هي ملحوظة في كثير من المجتمعات الاخرى!
ثم قلت: أذكر انني في السنة الأولى لاقامتي على أرض البحرين ذهبت مع احد الزملاء لنعزي شخصية مجتمعية كبيرة كان نجله قد لقي مصرعه في حادث مروري مأساوي.. جلست الى جوار زميلي في صفوف العزاء متجهما.. تبدو عليّ علامات التأثر بما جرى.. فإذا بي أفاجأ بأن من حولي – وعلى غير ما تعودت في مثل هذه المواقف – يخوضون أحاديث عادية جدا بصوت عال وبعضها أحاديث ضاحكة.. ولم أجد أي فرق بين هذا الحديث والاحاديث التي تجري في أي مكان آخر.. على مقهى مثلا!
دهمست في أذن زميلي: ما هذا الذي أسمعه وأراه؟!
قال: لا تستغرب.. ولا تتعجب.. هذا عادي جدا في البحرين.. انهم في البحرين لا يحزنون.. كما تحزنون أنتم في مصر.. لقد وهبهم الله فضيلة النسيان.. ولديهم اعتقاد أبدي راسخ مقتضاه انهم يعيشون على أرض الخلود.. ثم قال: يا أخي أنت رجل متعلم ولا بد أنك قد قرأت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهو من أقصر وأبلغ أحاديثه عليه الصلاة والسلام وهو الذي يقول فيه: «لا تغضب».. كما أن ديننا الحنيف يوصينا بعدم الحزن!
ومنذ يومها لا أنسى هذا الموقف.. وقد وفر علي الكثير من الاستغراب في كثير من المواقف طوال حياتي الطويلة على أرض البحرين.. لكن هذا الحديث، وهذا التوجيه الرباني بعدم ترك أنفسنا فريسة للأحزان.. لا علاقة له بالشعور بالغيظ والاستفزاز اللذين يشعر بهما المرء أو بأحدهما عندما نرى ما يحدث للمتقاعدين على أرض البحرين!
وهناك العديد من الامثلة التي تبعث على الاستفزاز في حياة المتقاعدين ومنها على سبيل المثال، وليس الحصر:
{ لا يزال هناك متقاعدون يحصلون على أقل من الحد الأدنى المقرر للمتقاعدين.. بدعوى ان القانون ينص على انه لا يجوز ان تزيد قيمة المعاش التقاعدي على الراتب الذي كان يتقاضاه العامل قبل خروجه على المعاش التقاعدي.. وقد ظهر ان هناك مواطنين كانوا يحصلون على رواتب متدنية. وقد ظلمهم القانون ظلما صارخا.. فلم يكفهم انهم كانوا يحصلون على رواتب متدنية فقد حصلوا على معاشات تقاعدية متدنية أيضا تقل عن الحد الادنى للمعاشات التقاعدية!
وهيئة التأمين الاجتماعي سعيدة ومستريحة جدا بهذه النقطة ومتمسكة بهذا القانون الى أبعد مدى.. وأتساءل لماذا لم تسارع الهيئة وتتقدم بمشروع قانون ينقذ هؤلاء «الغلابة» ثم تصمت ازاء مشروع القانون الذي أعدته السلطة التشريعية والذي يسمح للشوريين والنواب بتجاوز معاشاتهم التقاعدية الى ما هو أكثر من أربعة آلاف دينار شهريا.. أي السماح لهم بالجمع بين معاشاتهم عن وظائفهم السابقة وبين المعاش الذي يحصلون عليه لقاء عضويتهم النيابية أو الشورية وهي تساوي 50% لمن قضى فصلا تشريعيا واحدا و80% لمن يقضي فصلين تشريعيين!
{ النسبة العظمى من القضايا والمشاكل المتعلقة بالتقاعد تخص أصحاب المعاشات التقاعدية الدنيا.. وأصحاب المعاشات الهزيلة، وهذه المشاكل هي التي تملأ ملفات وأوراق الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، ويشتغل من أجل الدفاع فيها ضد هؤلاء «الغلابة» أمام المحاكم محامو الهيئة.. بينما نجد الوزراء مثلا لا يوجد لهم أي مشاكل مع الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي.. لان الوزير الذي يقضي يوما واحدا في الوزارة يحصل على معاش تقاعدي قوامه 80% من راتبه طوال عمره.. ويقال – والله أعلم – انه يظل يحصل على نفس راتبه في الوزارة كمعاش تقاعدي طوال عمره بل يتم توريث هذا المعاش أيضا لمن يستحقه من بعده!
{ ضمير الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي قد طاوعها لأن تعطي اعانة الغلاء منقوصة لأصحاب المعاشات التقاعدية الذين سمح لهم القانون بالجمع بين الراتب والمعاش – إذا كان هذا الجمع سيصل بمجموع المعاش التقاعدي والدخل الى أكثر من 1500 دينار.. لماذا؟.. والله لست أفهم.
* لماذا يحرم على العاملين السابقين في القطاع الخاص ان تتجاوز معاشاتهم حد الاربعة آلاف دينار بحريني.. بينما يسمح بهذا التجاوز لموظفي الحكومة السابقين.. وهناك توجه بالسماح لاعضاء السلطة التشريعية بهذا التجاوز أيضا؟
أليس كل هؤلاء مواطنين تتوحد أوضاعهم بعد خروجهم على التقاعد؟.. ويواجهون ظروفا معيشية واحدة، ومسئوليات متماثلة؟!!
جريدة اخبار الخليج  – العدد  ١٣١٢٨ – يوم الأثنين الموافق  ٣  مارس  ٢٠١٤
المتقاعدون

Image Gallery