تعسف صاحب العمل في استعمال الحق: بين النصوص القانونية والواقع العملي

بقلم: علي العصفور

الأمين العام المساعد للصحة والسلامة المهنية والبيئة

يشكّل مبدأ “استعمال الحق في حدود ما وُضع له” أحد الركائز الأساسية في التشريعات العمالية. فقد أعطى القانون لصاحب العمل حقوقاً متعددة، كإدارة المشروع، وتوزيع المهام، ومراقبة الأداء، واتخاذ القرارات المتعلقة بسير العمل، بما يضمن استمرارية الإنتاج وحماية مصالح المؤسسة. إلا أنّ هذه الحقوق ليست مطلقة، بل مقيّدة بضوابط القانون والعدالة والاعتبارات الإنسانية.

إنّ تعسف صاحب العمل في استعمال الحق يظهر عندما يتحول الحق المشروع إلى أداة للضغط أو الإيذاء، فيُستخدم خارج نطاق المصلحة المشروعة للعمل. ومن صور ذلك:

  • فصل العمال دون أسباب حقيقية أو لأسباب انتقامية.
  • النقل التعسفي إلى مواقع أو وظائف أقل قيمة أو أبعد مكاناً لإرهاق العامل.
  • حرمان العامل من الترقيات المستحقة أو المزايا الوظيفية بغير مبرر.
  • فرض شروط عمل مجحفة لا تتناسب مع قدرات العامل أو مع ظروفه الصحية والإنسانية.

في البحرين، كما في كثير من التشريعات العربية والدولية، وضعت القوانين حماية واضحة للعمال ضد التعسف. فقد نصّ قانون العمل البحريني على أنّ “إنهاء عقد العمل يجب أن يستند إلى سبب مشروع متعلق بالعمل ذاته”، وأن أي إنهاء غير مبرر يعد فصلاً تعسفياً يوجب التعويض. كما أقرّت الاتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية (ILO) مبدأ الحماية من التمييز وسوء المعاملة.

لكنّ الإشكالية الكبرى تكمن في الفجوة بين النص والتطبيق. فكثير من العمال، خصوصاً في القطاعات الهشة أو في ظل ضعف التنظيم النقابي، يتعرضون لأشكال مختلفة من التعسف دون أن يجرؤوا على المطالبة بحقوقهم، خوفاً من فقدان مصدر رزقهم أو التعرض لمزيد من الضغوط.

تقع على النقابات مسؤولية كبرى في رصد حالات التعسف والتصدي لها، من خلال تقديم الدعم القانوني والمعنوي للعمال المتضررين، وممارسة الضغط على جهات الاختصاص لتفعيل النصوص القانونية. كما ينبغي أن تعمل النقابات على تعزيز وعي العمال بحقوقهم، لأن الحق لا قيمة له إن لم يُمارس، ولأن الصمت على التعسف يُكرّس الظلم ويُضعف مكانة العمل النقابي.

إلى جانب مسؤولية النقابات العمالية، فإنّ الدولة تتحمل دوراً أساسياً في حماية العمال من تعسف أصحاب العمل. صحيح أنّ المشرّع البحريني وضع آليات للإنصاف والتعويض، مثل حق العامل المفصول تعسفياً في الحصول على تعويض يعادل يومين عن كل شهر عمل بحد أقصى اثني عشر شهراً، إلا أنّ هذا التعويض يظل محدوداً ولا يرقى إلى مستوى العدالة الكاملة، بل ولا يُنصف العامل ذو الخدمة الطويلة، خاصة إذا ما قورن بتشريعات عربية أخرى. ففي مصر مثلاً يُمنح العامل المفصول تعويضاً لا يقل عن أجر شهرين عن كل سنة خدمة، وفي المغرب يصل التعويض إلى 1.5 شهر عن كل سنة خدمة بحد أقصى 36 شهراً، بينما في لبنان يتراوح التعويض بين شهرين و12 شهراً حسب تقدير المحكمة، وفي تونس يصل إلى ثلاثة أعوام من الأجر. هذه المقارنات تكشف أن التعويض في البحرين يُعد من بين الأقل على مستوى المنطقة العربية، الأمر الذي يقلل من أثره الردعي ولا يوفر الحماية الكافية للعامل. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى رفع سقف التعويض وتعديله بما يتناسب مع المعايير الدولية والتجارب العربية الأكثر تقدماً، بحيث يشكل التعويض أداة ردع حقيقية تحدّ من تعسف صاحب العمل.

كما أنّ أجهزة الرقابة العمالية – رغم وجودها – لا تمارس دورها بالفاعلية المطلوبة، ما يترك كثيراً من حالات التعسف دون معالجة حقيقية. إنّ مسؤولية الدولة لا تقتصر على وضع النصوص، بل تمتد لتشمل تفعيلها ومراجعتها بشكل دوري بما يحقق التوازن بين طرفي الإنتاج، ويعزز الثقة في منظومة العدالة الاجتماعية.

إنّ التوازن العادل بين حقوق صاحب العمل وحقوق العمال هو الضامن الحقيقي لاستقرار علاقات العمل. أما عندما يُساء استعمال الحق، فإنّ النتيجة تكون خسارة مزدوجة: تضرر العامل إنسانياً ومهنياً، وتراجع ثقة العمال بمؤسساتهم، بل وحتى تضرر سمعة وإنتاجية صاحب العمل نفسه على المدى البعيد. ومن ثم، فإنّ حماية العامل من التعسف ليست ترفاً قانونياً، بل هي أساس لبناء سوق عمل عادل ومنتج، يحقق الكرامة الإنسانية ويصون العدالة الاجتماعية. وهنا يبرز الدور المحوري للنقابات العمالية والدولة معاً في أن يكونا صوتاً وحصناً للعمال في مواجهة التعسف، وداعمين لحقوقهم في معركة الكرامة والعدالة.

Image Gallery