أسواق العمل الخليجية… تحديات الواقع وآفاق المستقبل

جميل حميدان
ورقة عمل مقدمة لـ «المنتدى العربي الثاني للتنمية والتشغيل» في الرياض (25 فبراير2014)
جميل حميدان … وزير العمل
لا شك أن قضايا التنمية والتشغيل تكتسب أهمية بالغة، ليس لأن هذه القضايا باتت تشكل محور الاهتمام في مختلف فعاليات المنظمات الاقليمية والدولية المتخصصة، لما لها من أبعاد وآثار تشمل مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية فحسب، بل كذلك لأن أهميتها تزداد يوماً بعد يوم، خصوصاً وقد هلّ علينا عام آخر مثقل بالآثار السلبية التي تراكمت على أسواق العمل العربية جراء استمرار التقلبات الاقتصادية في الأسواق الدولية وانعكاسات المشكلات السياسية التي تعاني منها بعض الدول العربية.
بعد انفتاح أسواق العمل الخليجية على الاستثمارات المحلية والخليجية والعالمية، بات واضحاً أن الاقتصاد الخليجي وسوق العمل المرتبط به يشهدان تحولات كبيرة ومتسارعة حتى وصلت تطورات سوق العمل في دول مجلس التعاون الخليج إلى منعطف شديد الأهمية. وإذا كانت سياسات سوق العمل في بداية الطفرة النفطية الأولى في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين قد خدمت تطلعات دول المنطقة آنذاك، فإن واقع الحال يشير إلى أن سوق العمل في دول المجلس باتت تخضع لضغوط متزايدة واختبار حقيقي لجهة مواءمتها وقدرتها على المساهمة في تحقيق رؤية دول مجلس التعاون الخليجي على صعيد توفير المقومات التي تضمن الوصول إلى اقتصاد معرفي مرن تقوده كفاءات خليجية ماهرة، وتعززه أفضل الخبرات بما يضمن ازدهار أسواق العمل الخليجية وقدرتها على تحقيق التنمية المستدامة والمعتمدة على الذات.
وهناك ثمة عامل مشترك ومهم ومحوري يضعنا تحت المزيد من الضغوطات والتحديات، ويتمثل هذا العامل في تزايد أعداد المواطنين الباحثين عن عمل وبوجه خاص الجامعيين منهم، وهذا خلاف حاجة سوق العمل اليوم والتي تبحث عن الفني والتقني الماهر والمحترف من المواطنين، ما يحتّم علينا إيجاد فرص عمل نوعية جديدة للمواطنين خلال العشر سنوات القادمة، تفوق ما أوجدته دولنا على مدار الأربعين عاماً الماضية، فضلاً عن ضرورة التركيز على نشر ثقافة العمل المهني الاحترافي مع تكثيف الجهود لإعداد البرامج المهارية والاحترافية المطلوبة.
إن الزيادة المستمرة للأجانب، ومستوى معدل نمو التشغيل السنوي لهم، سيؤديان إلى انعكاسات سلبية ليس فقط على صعيد سوق العمل بل على التركيبة السكانية والاجتماعية لكافة دول مجلس التعاون الخليجي. والخشية أن تتطور الأمور إلى تكريس حالة وجود مجتمعين أحدهما مواطن والآخر وافد، الأول يعتمد على الثاني بصورة شبه شاملة ودائمة، والثاني بدوره يولد طلباً إضافياً على العمالة الوافدة نتيجة الحاجة المتزايدة للخدمات المرتبطة ببقائه وأفراد أسرته مثل السكن والتعليم والصحة والمواصلات وغيرها. وهكذا سنجد أنفسنا في حلقةٍ تؤدي إلى تضخم الحاجة والطلب على العمالة الوافدة مقابل تقلص فرص الاستفادة من الموارد البشرية الشابة المواطنة.
نحن نؤمن بأن هناك تحسناً ملحوظاً في الأداء الاقتصادي لدول المجلس، ولكنه زاد من تدفق العمالة الأجنبية في نفس الوقت، ومن ثم تراجعت الإنتاجية بسبب نوعية هذه العمالة. وهذا يضعنا أمام واجب مجابهة صعوبات وتحديات تغيير نمط توليد الوظائف والذي يحتاج بدوره إلى حزمة سياسات اقتصادية محفزة وداعمة بقوة لجعل خيار رفع الإنتاجية هو القاعدة وليس الاستثناء في نشاط الأعمال، وانه ما لم تتم معالجة بنية الطلب على العمالة، فإن جهود تحسين العرض من العمل قد تواجه عوائق وعثرات ستحد بلا شك من إمكانية تحقيق نجاحات ترتقي إلى مستوى طموحاتنا.
إن إيجاد نقطة توازن بين متطلبات التنمية المختلفة والمتنوعة عملية مستمرة ولا تتوقف عند حد معين، بل تحتاج إلى التجديد والتحديث الدائمين كلما كانت الوقائع والحقائق تشير إلى استمرار الخلل المطلوب إصلاحه بالسوق. وهنا لابد من التأكيد أنه عند الحديث عن سوق العمل بالتحديد، فإن ما يهم في المحصلة النهائية ليس تأثيره على حجم النمو الاقتصادي فقط، بل على مدى استدامة وجودة هذا النمو والمنافع الاجتماعية التي يجلبها للمواطنين.
إذ أن منظور تسهيل إجراءات توفير الأيدي العاملة الوافدة اللازمة للقطاع الخاص مهم ويجب الاستمرار فيه، ولكن هذا المنظور لابد أن يتكامل بصورة أقوى مع مسئولياتنا في ضبط وتقنين تدفق هذه العمالة، بحيث تأتي هذه السياسات منسجمةً مع الإطار العام للاستراتيجية السكانية لدول مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن سياسات وبرامج زيادة فرص توظيف المواطنين وتسهيل انتقالهم بين دولنا، والتي كانت ولا تزال محور مناقشات مستفيضة في اجتماعات مجلس وزراء العمل بدول مجلس التعاون.
ولضمان هذا التوازن المنشود، فإن دول المجلس بدأت في توسيع نطاق الخيارات في سياسات سوق العمل، بحيث لا يتم حصرها في هذه السياسة أو تلك، ابتداءً من تغير آليات وخيارات «التوطين» المرتبط في الوقت الراهن بعملية تنظيم استقدام العمالة الوافدة وتوليد فرص العمل للمواطنين، والذي كرس حالة من التبعية لعملية توفير وظائف للمواطنين مشروطة بوجود طلب للعمالة الوافدة فقط. بل بادرنا كذلك إلى تطوير آليات وسياسات جديدة جاذبة للمهارات والخبرات العالية التي يحتاجها اقتصاد موجّه نحو إنتاجية عالية، تفسح المجال لمنافسة عادلة بين المواطن والوافد وتنعكس بصورة جلية ومستمرة على اقتصادنا الوطني ونموه المستدام.
ومن أجل ضمان تحقيق التوازنات المنشودة وخصوصاً في ظلّ تدفق الأعداد الهائلة من العمالة الوافدة ذات المهارات المنخفضة والإنتاجية المتدنية، والتي تنافس المواطنين على شغل الوظائف وتتخذ من دول المجلس محطة تدريب وتطوير لمهاراتها ومعارفها، فإن دول مجلس التعاون تعمل بجد على الانتقال إلى اقتصاد معرفي من خلال المبادرات والخيارات النوعية، إضافةً إلى تطوير السياسات التي تعمل على تحقيق ميزة التنافسية العادلة والتي تقود إلى جعل العامل والموظّف الخليجي هو الخيار الأمثل وصاحب التميز والقدرة والكفاءة والأداء العالي. ويتم هذا من خلال إرساء خطوات حقيقية نحو اقتصاد المعرفة عبر إطلاق حزمة من المشاريع التي ستشكل العمود الفقري والقاعدة الأساسية لإصلاح سوق العمل والهيكل الاقتصادي. وتتمثل أبرز تلك المشاريع في منظومة المؤهلات والمعايير المهنية ومراكز الاختبارات المهنية، التي تحمل في طياتها فوائد لكافة أطراف الإنتاج الثلاثة، لترسم بها خارطة طريق نحو التوازن المنشود في سوق العمل الخليجي والسيطرة على البطالة في حدودها الآمنة، فضلاً عن تمهيد الأرضية اللازمة لقيام أسواق عمل تتخطّى الحدود الجغرافية الإقليمية، وتكون الآلية والأداة الناجعة للتحكم في جودة القوى العاملة المحلية والوافدة، وترتقي بالمواطن الخليجي في مهاراته وتطلعاته وآماله إلى آفاق أوسع، وستكون لها آثار إيجابية على جودة المنتجات والخدمات المقدّمة في أسواقنا الخليجية ما يجعل منها بيئةً تستقطب المزيد من الاستثمارات التي تدار بأيدٍ وطنيةٍ مؤهلةٍ تنافس العمالة الوافدة.
وتبقى الإشارة إلى أن العمل قد بدأ في إنشاء مراصد القوى العاملة في دول المجلس والتي ستتحول إلى مرصد خليجي موحد لسوق العمل. وقد بدأت تتضح ملامح تلك المراصد في بعض الدول الشقيقة، والتي بدورها ستوفر قاعدة متكاملة لبيانات سوق العمل لتشكل مصدراً رئيسياً لمتخذي القرار في مختلف الخطط والبرامج التعليمية والتدريبية الهادفة إلى رسم الاستراتيجيات وتقليص فجوة المهارات وسد الثغرة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. ومن المؤمل أن تكون هذه المراصد بمثابة البوصلة الوطنية التي سترشدنا نحو الأهداف المتوخاة عبر قراءة استراتيجية لمستقبل الأسواق الخليجية واحتياجاتها من العمالة وأنواعها.
في هذا الإطار، فإن وزارة العمل سوف تطلق جملةً من المشاريع والبرامج خلال العام الجاري لتأهيل وتوظيف العاطلين، وذلك في ضوء قراءة مفصلة لاحتياجات سوق العمل في المملكة، فضلاً عن تحقيق هدف زيادة القدرة التنافسية للعامل البحريني مقابل العامل الوافد.
ويتمثل أبرز هذه المشاريع في مشروع توظيف وتدريب البحرينيين (2)، الهادف إلى تأهيل وتوظيف عشرة آلاف بحريني باحث عن عمل خلال سنتين. وتأتي الحاجة إلى هذا المشروع لكونه يعد جسر العبور بين مخرجات التعليم الحالية واحتياجات سوق العمل، وفي الوقت نفسه يفتح آفاقاً واسعةً لاستيعاب أكبر عددٍ ممكن من الباحثين عن عمل وتوظيفهم في وظائف مناسبة ونوعية.
تتركز الأهداف الرئيسية للمشروع في المحافظة على معدلات البطالة في حدودها الطبيعية والآمنة، وتوفير فرص عمل لائقة ذات أجور مجزية للباحثين عن عمل، وإعادة تأهيل ذوي التخصصات غير المرغوبة في سوق العمل في برامج مناسبة ومطلوبة لسد فجوة المهارات، وإدماج المتسربين من التعليم النظامي في سوق العمل وذلك لتحقيق الأمن الاجتماعي، فضلاً عن رفع الحدّ الأدنى لأجور المواطنين.
وتم إعداد هذا المشروع بعد أن لاحظنا زيادةً في أعداد الخريجين الجامعيين وعدم ملائمة تخصّصات غالبيتهم مع احتياجات سوق العمل، بالإضافة إلى افتقارهم إلى المهارات المطلوبة. هذا في ظلّ حاجة سوق العمل للعمالة الماهرة والفنية والتكلفة المالية العالية التي يحتاجها التدريب التقني والمهني ووجود منافسة قوية من العمالة الوافدة، في التخصصات الفنية والماهرة، والتي تستحوذ على غالبية الوظائف في سوق العمل الحالي والمستقبلي.
ويستهدف المشروع جميع شرائح الباحثين عن عمل (الثانوية العامة، حملة الدبلوم، والجامعيين) الذين يواجهون صعوبةً في الحصول على وظيفة بسبب النقص في الخبرة أو الضعف في التحصيل أو عدم توافر الشواغر التي تناسب تخصصاتهم، وخصوصاً حملة الشهادات الجامعية في تخصصات العلوم الانسانية.
والمشروع الثاني هو مشروع «انطلاقة مهنية… بيدي أبني وطني»، والذي يهدف إلى توظيف وتدريب (1500) من الباحثين عن عمل، إضافةً إلى الراغبين في تحسين وضعهم الوظيفي من ذوي الأجور المتدنية أو الراغبين في وظائف أفضل في مجال عملهم، من خلال تأهيلهم للقيام بالمهن الحرفية والفنية في شركات ومؤسسات القطاع الخاص، فضلاً عن توفير الحوافز المالية التي تشجّعهم على قبولها. ويمثل هذا المشروع رداً على التحدي المتمثل في عزوف العديد من أبناء الجيل الحالي عن العمل في الوظائف الحرفية والفنية.
والمشروع الثالث الذي سنركز عليه المزيد من الجهود هذا العام هو «مشروع المعايير المهنية الوطنية» الذي تمّ إطلاقه مؤخراً بالتعاون مع مجلس التنمية الاقتصادية. ويشكل حلقة الوصل بين مخرجات التعليم والتدريب ومدخلات سوق العمل، من خلال إيجاد معايير مهنية تكون الأداة الرئيسية لإنشاء برامج التدريب والتعليم المهني المعتمدة والمعترف بها في منظومة المؤهلات الوطنية التابعة لـ «هيئة المؤهلات وضمان جودة التعليم والتدريب».
كما سيساهم المشروع في عملية الاعتراف الإقليمي والدولي بهذه البرامج حيث أن عملية الاعتراف بالمؤهلات المهنية تتطلب وجود معايير مهنية بنيت على أساسها هذه البرامج، ومع غياب المعايير المهنية تصبح عملية الاعتراف والاعتماد غير مكتملة. كما سيشجع المشروع الباحثين عن عمل والطلبة، على الإقبال على التعليم المهني في التخصصات المطلوبة في سوق العمل، كما ستساهم المعايير المهنية بصورة مباشرة في رفع جودة العمل والإنتاجية لدى العاملين في القطاع الخاص، وتقديم حلول جوهرية للباحثين عن عمل وأصحاب العمل، بالإضافة إلى المسئولين عن العملية التعليمية والتدريب في البحرين.
ويتمثل الهدف الأولي للمشروع في إنشاء 125 معياراً مهنياً يتفرع منها أكثر من 300 عنوان وظيفي في المرحلة الأولى، وقد تم إنشاء ما يقارب من 50 معياراً حتى الآن.
الخلاصة ان تجربة مملكة البحرين تشير إلى أن نجاح سياسات التوظيف وتنمية الموارد البشرية من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة لن يتحقق بدون إيجاد حزمةٍ من البرامج والمشاريع المدروسة بعناية، والتي تلامس احتياجات سوق العمل، آخذةً في الاعتبار مصالح كافة الأطراف، من أصحاب العمل والباحثين عن عمل والحكومة، وبما يخدم الاقتصاد الوطني والشرائح الاجتماعية المختلفة. فما لم تقتنع تلك الأطراف بأن حقوقها مصانة ومتطلباتها مستجابة، لن تبادر إلى المساهمة الفعالة في إنجاح السياسات المنشودة.
جريدة الوسط – العدد  ٤١٩٤ – يوم الأحد الموافق  ٢  مارس  ٢٠١٤
جميل

Image Gallery